أنا . . غائب عنّي-مروان ياسين الدليمي (العراق)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

أنا . . غائب عنّي

  مروان ياسين الدليمي    

كاذبة هذي البلاد في ابتسامتها لنا
امتهنت الكذب علينا ستين سنة 
في مراحيض العساكر من قادتها رمت احلامنا،
والعارفون منا :
الفاهمون المثقفون
 قوميون وشيوعيون وماركسيون
أخوان مسلمون وناصريون إشتراكيون .
كلهم دفنوا اسماءهم تحت بساطيل قادتها .
 لكسب الود منها وإرضاءً لخاطرها .

كيف خُدعنا ؟  .   .   .  لاأدري ! . . 
اذكر انّا رددنا اناشيد الثورة الاف المرات قبل الاكل وبعد الاكل ،
في ساعات ألنوم أو الصحو.
في اقصى  لحظات النشوة كل صباح في المدرسة .
والأوطان تلوذ بصمت مشبوه مطبق
 كانت  تقتل فينا الحب والرغبة في العيش!

نحن، لم نعد نشبه مانحن
نحن،  من إقترف  من حماقات تحت نجوم نامت في ثيابنا
نحن ، ماصنعنا من طغاة .
و نحن ايظاً ماقتلنا و مابكينا من اولائك  ألطغاة .
نحن اختلفنا عن الامس ، واختلف الامس عنا
الليل هنا  لم يغادرنا
 ثملاَ بالفؤوس يركض خلفنا
بحروب قصيرة جداً وحروب طويلة جداً
محترقا بنا
بخيباتنا المفخخة
بالرصاصات الطائشة 
بالشهوات العابرة .
بمن يتربص بنا
في زحمة الاسواق .
في  يوم الاحد بعد القداس
 في المكروباص
في الهاتف الخليوي
في المطعم
امام باب المسجد
في عرض مسرحي 
في صفيحة للزبالة
بمن يلاحقنا ليجز اعناقنا .

غير انّ يقظتنا،  نامت معنا ولم تقبل التعليق أوالهروب منا.
كان ألرهان على الموت ،
مَرّة  بقفازاتنا المتهرئة في رطوبة  الحانات
واخرى بعد ان نأكل اليقطين المدوّن في جدول أيامنا .
حين الرسائل غابت هي الاخرى عنّا
وأقتربنا من غيمة الكلام المر نمحو اسماءنا ،
نبادل الصمت ساعي البريد ، ونسجد في سجل الحضور وخانة الغياب،
 في ألخرائط التي ذرفتنا ولم تعد تتقن رؤيتنا .

أعرف أن  العمر بكفّيه قد  بعثرني وماعاد  يجدي التحديق بوجهي  وفي باطن كفي .
كما أعرف أن التشرد تداخَل فيّ، ولم يعد التلصص على الاخطاء
يدهشني.
وأعرف ان المعجزات حرة في حضورها الا معي .
وليس لي إلا أن ألقي بأسئلتي بوجه اسئلتي  ولن أنتظر اجوبة مني .
أنا حاضر .
بل أنا غائب عني ، مذ  قَتل المشيرالبراءة (1) في قصر الزهور، ومشى على سجادة حمراء الى مبنى الاذاعة   ليقرأ بيان الثورة ، وفي جيبه بيان اخر لانقلاب اخر،  ولم يكتف ،
 وقرأ البيان في مرة اخرى، لثورة  اخرى  ولم يكتف ، غسل كفيه بدم الزعيم  ولم يكتف . 
 والغربان فجراً على سقف قطار الموت(2) حطّت زاعقة، تنتظر الفا ومئة من الضحايا،   ولم تكتف، ضباطاً واطباءً ،مهندسين مدنيين وعسكريين ،
ستمضي العجلات بهم تحت لهيب الشمس الى حتفهم  ،
 من معسكر الرشيد حتى نكرة السلمان (3) . 
الخوف  عانقني انذاك ـــ دون أن ادري ـــ بخدوشه المُرّة في ذاكرتي ،
ولم يكتف ، بات  يحصى خطواتي والتفاتاتي والوان قمصاني واسماء صحبتي واسماء اعمامي واخوالي  ، ، من كان  يصلي ومن  كان  يحتسي  الخمر ، من هرب ، من هاجر،  من كان ضد الثورة ، ومن كان معها . من مات منهم ومن كان على قيد الحياة  .
تلك السنوات التي  كانت بطعم الفولاذ، اندست في اصابعي، وشطبت ماتبقى من دمي وافلاك ذاكرتي  . كانت المشانق فيها اهزوجة لنا . . . !

لِمَ المشانق؟
لِمَ ألفوارق؟
لم الحكمة لاتأتي إلا من فم الزعيم أو الفريق أوالعقيد  أو المهيب
أيعقل أن  يرسم أمي أوشرطي أو عريف في الجيش . 
 على قالب من الثلج أحلام أمة  !؟ 
لِمَ الضالعون بالقتل هم دائما احبابنا واسيادنا !؟ 
لِمَ الانقلابات الدموية  مثل الظل تتبعنا  ؟
  

من نحن ؟
كم سألناأنفسنا هذا السؤال   .
من نحن ؟
ونحن في  متاهة الاسلاك، نستيقظ على الفجرمغبراً في معسكر التاجي
أوفي نقطة تفتيش للحرس القومي(4)
اوفي جثة تسحل عارية على الاسفلت والشعب بصوت واحد يهتف (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة) (5)
اوفي ليل يحاصرنا بالموت في حفر الباطن اوفي الشلامجة أوبنجوين أوعلى قمة جبل، يرقد فيه  فوج مغاوير الفرقة السابعة والثلاثين ، وضابط  التوجيه السياس يصرخ من جوف الملجأ ( ياحوم اتبع لوجرينا ) (6).

من نحن ؟
 سقط ألسؤال مع الثلج ــــ  شظاياــــ على وجوهنا ،أنا وبولص أدم
 توارت عنا اوهامنا  !
والطرقات التي  خبأنا فيها  اخطاءنا
سحلتها كلاب سائبة في بغداد او في منصورية الجبل اوفي الوزيرية او فندق الوفاء او في اكاديمية الفنون الجميلة اوفي مسرح الرشيد ، لاأدري .
وأجمل ألاشعارالتي دحسناهافي بساطيلنا، هي الاخرى  لم تعد تعرفنا .
ايّة مرارة قَذَفناعلى صحيفة داستها اقدام الركاب، حين عثرنا عليها تحت المقعد الجلدي ذي اللون البني الداكن  في  الباص الاحمرالبغدادي المُجهَد باخر جولة مابين ساحة الاندلس وباب المعظم ونحن سكارى  نضحك من جيوبنا الفارغة  بعد الساعة العاشرة  من ليل بغداد الثقيل .
لاصوت يأتي من كوكب الشرق يقيل الضجرمن  احاديث المقاهي
الحرب تعثرت بأعمارنا  ودهنت ماسورتها بقمصاننا المفتوحة للريح
َوالدم الطهور تدحرج على عتباتنا  مذ تهدج الصوت في ليلنا .
 صديقي بولص نسج قصة محكمة  لهروبه من ورطة الحرب .إستوحاها من عدة اشرطة سينمائية تجريبية ، وحين انتهى من كتابتها وجد نفسه فوق جبل ماوت،في كهف يقتسم الخبز اليابس في اخر ساعات  الليل مع البشمركة وبيده رشاش روسي  . كان البرد شديداً جداً خارج الكهف، حين اشعل سيكارة سومر وكتب رسالة لي يقول فيها  :

[ العزيز مروان . . في طريقي داخل مدينة  العمادية قابلني صلاح الريكاني من وراء زجاج سيارته، وعلمت بأنه أصبح (أبي نورس ) فكانت فرصة سريعة لكي استمع الى اصوات،  لم اسمعهامن سنتين ، وأتحدث معه بالعربية .
أنت الان تدريسي ومحمد (طالب ) وريسان . . . ووو. . .
تعلمت أن اتقبل المحتوم لأجعل منه شيئا مفيداً،  أنا الان  هارب أكثر مما ينبغي ، بدأًمن الحدود وحتى ايامي في ماوت وجوارته وأزمر وشوان والسليمانية ، وأيامي ألحالية كذلك في ديره لوك وديري وألعمادية ووو. .
موغل في صمتي،  سواءً حينما اضطرني واجبي مع فوج علي الحاج شعبان مؤخراً  ًلقضاءخمسةعشر يوماً بين الثلوج في مواجهة قبر والدي في قرية ديري المهجورة . . أو. . أوعندما كنت واقفاً في السيطرة الخارجية من السليمانية نحو ماوت الصيف الماضي . . أحدق في وجهه، ويحدق في وجهي  فقط وهو داخل (الايفا ) أقصد ( خالد النجار ) نجار لوائنا القديم (ريسان يعرفه ) دون أن نتحدث . . أردت أن أسأله عن ريسان العزيز مثلاً . . ولكنني بقيت واجماً على ( يَطَََََغي ) وبندقية الفرسان في يدي، ولأني علّقت الاسئلة فوق مشابك المستقبل، ولأني لم أعلم ماهو مصيرهُ في الليلة التالية ،
 ( تقدموا نحو مرتفع محاذي لمرتفعنا ) و. .
أنت تتوقع أن أكون متفائلاً جداً  ؟  وهذا صحيح . .
راقبتُ ببطء زوال صفات كثيرة مني ، وفي فترة التغرب هذه هربت من زمني نحو مجهول . .
والاسطورة الكردية (ممي ألآن) تقول بأن ( رأس الرجال ياولدي جبل عالٍ يجب أن يحيط بقمته الضباب وألدخان ) . .

أنني بحاجة إلى السلام وأرجوه لكم . .
أين حياتي الحقيقية ؟ وإلى متى سوف أعتقد بأن الانسان ليس بحيوان نصف عاقل بل كائن مخصص للخلود ؟ . تحياتي واشواقي والسلام . . وإلى ريسان  . .
التوقيع
بولص ايشو ادم
24/ 6/ 1988
العمادية .](7)

لِم َ اقتربنا من ظفيرة العتمة  ونسينا اصواتنا خلف ظهورنا كلما تشقق الوقت بحشرجة ؟
لِم البيوت التي سكنتنا تسربت من اصابعنا ؟
وتلك الظلال التي ركضنا خلفها هوت فوق رؤوسنا .؟
على تلك السلالم الحجرية  في اكاديمية الفنون  كانت الطرقات تتغير امام تراكيب الكلمات المكتفية بمراسيم الدهشة، والمقابر تختفي  تحت تلك النخلة الوحيدة في الكلية  كلما ازحت الدخان  من الهواء في ازقة الوزيرية بجملة من كلام تمنح للفوضى طفولتها ، ( أنا وعزام صالح وهادي ياسين علي ومحمد المهدي وعبد الامير شمخي وعلي سالم وعلي جنح وعوده مغامس وسعد كرنه ومحمد اسماعيل وضياء ربيع وعلي داخل وأميل جورج ونجم عبد شهيب)(8) . . . تسبقني عادتي في التدخين وأنا احتسي الشاي المطعّم بالكافور كاشفاً ظهري  لماسورة المسدس بينما  أستعيد  خطأ توقعاتي  لمسارألاحداث في فلم  (الرؤيا الان )(9) رغم أني لم اخلد الى  ألنوم ليلة السابع من كانون الثاني من العام الف وتسعمئة وواحد وثمانين حتى انهيت  رواية( ساعة نحس ) .(10)
 
لست وحدي بهذا الاسى اعاشر الانتظار
امشي بمرارتي  الى  خريف العربات
أكدس الغيم على حانات تم شطبها من خطوط يدي
واشم رائحة الخطوات في قلب الرماد .

خطا راهنت على اليوم التالي لانكسار الطين في يدي
وكشفت للصدفة مظلتي .
خطاهذا العمود اليومي  في الصفحة الاولى
خطا مايرتق من سطور لديباجة التعزية
خطا أرقام الضحايا 
خطااصدقاء تراجعوا وخافوا، وأصدقاء هاجروا وتغيروا 
خطا نحن . خطا أنتم . . .

لِمَ اخطأنا ؟
لِمَ حاربنا ؟
لِمَ دافعنا ؟
هنا التراب معلّب بإمضاءات لاتفاصيل لها
لينهال على رؤوسنا في تواريخ شتى ، وتحت راياتها تنحر رقابنا
هي النياشين والانواط نافذة البلاد كانت  الى ماتكرر من رماد في اضلعنا
هي التي لاحقتنا
وتأمرت علينا
وضيّعتنا

 شطبت سماءنا من اكفنا
وكفنتها بين قصر النهاية وابي غريب وسجن الكوت وسجن رقم واحد والحلة وبادوش والجادرية والكاظمية والموصل والفضيلية والامن العام والمخابرات وسجن المطار وبوكا . 
عبثاً نستذكر الامس 
عبثاً نكهة الشاي وقصيدة النثر وبيانات الحداثة في مقهى حسن عجمي 
عبثاً جواد سليم  ونصب التحرير وجدارية فائق حسن ومسرح بغداد والفن الحديث وغائب طعمة فرمان ومحمود جنداري ومحمد خضير 
عبثاً تمشي المرأة سافرة في الشارع
عبثاً تعمل، تعشق، تتعلم
عبثاً تأكل وتشرب
عبثاً من عُذب ومن تظاهر واستشهد
عبثاً مسرح الصورة ،وصلاح القصب، وشفاء العمري ،وخليل شوقي 
وزينب ، وناهدة الرماح .وزكية خليفة
عبثاً علي الوردي
مظفر النواب
عبثاً من ناضل وصمد  وقاتل
عبثاً محمود صبري ونوري الراوي وكمال سبتي  ومحمد مهر الدين وشداد عبد القهار  ولوثر ايشو وقاسم حول وعبد الهادي الراوي وقاسم محمد وسعد جاسم
عبثاً شارع المتنبي
عبثاً نزيهة الدليمي وهادي العلوي وجبرا ابراهيم جبرا وخزعل الماجدي وفالح عبد الجبار وسلمان داؤود محمد وصلاح حسن وزاهر الجيزاني  ورعد فاضل وحميد قاسم وعبدألرزاق ألربيعي وسعدي يوسف والبياتي وهيثم البردى وزهير البردى وشاكر مجيد سيفو وعبد الحميد كاظم الصائح
عبثاً كدحُنا وركضُنا وكل مانجمع
عبثاً طه باقر وفائق بطي وكامل الجادرجي وسركون بولص والاب الشاعر يوسف سعيد

عبثاً مارسموا وماكتبوا وما فكروا وماأنجزوا وماحلموا
غير اني ـــ ورغم يأسي وكأبتي ـــ متفائل
فالكون هذاعجيب وجميل و مدهش
والناس ـــ  في مر الهزيمة ـــ   تموت ولم تزل عن فجرها  تبحث .



  1-رئيس جمهورية العراق المشير عبد السلام عارف من سنة 63 الى 1966
2 –بعد انقلاب 8 شباط 1963 تم اعتقال مايقارب الف ومئة من ضباط الجيش العراقي . ووضعوا في
سجن معسكر الرشيد . وبعد تمرد العريف حسن سريع وقمع هذا التمرد . تم شحن كل الضباط المعتقلين
في قطار ذاهبابهم الى سجن نكرة السلمان في صحراء السماوة ، وفي ظروف بائسة لاإنسانية
3 – سجن شهير في عمق صحراء السماوة
4- ميليشا اسسها حزب البعث العربي الاشتراكي بعد انقلاب 8 شباط
5- اهزوجة كان الشيوعيون يرددونها بعد تمرد عبد الوهاب الشواف في الموصل عام 1959
6- اهزوجة شاعت ايام الحرب العراقية الايرانية عام 1980
7- هذا نص الرسالة التي وصلتني من صديقي بولص ادم بعد هروبه من الجيش الى شمال العراق
8- اصدقائي في كلية الفنون الجميلة في النصف من ثمانينيات القرن الماضي
9- فلم للمخرج فرانسيس كابولا تناول الحرب الفيتنامية وحاز على جائزة الاوسكار
10- رواية للكاتب الكولمبي كارسيا ماركيز
  مروان ياسين الدليمي (العراق) (2008-12-31)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

أنا . . غائب عنّي-مروان ياسين الدليمي (العراق)

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia